Description
الطيب الصالح
لابد أنني كنت صغيرا جدا حينذاك ... لست أذكر كم كان عمري تماما ، ولكنني أذكر أن الناس حين كانوا يرونني مع جدي كانوا يربتون على رأسي ، ويقرصونني في خدي ولم يكونوا يفعلون ذلك مع جدي .العجيب أنني لم أكن أخرج أبدا مع أبي ، ولكن جدي كان يأخذني معه حيثما ذهب إلا في الصباح حين كنت أذهب إلى المسجد لحفظ القرآن . المسجد والنهر والحقل، هذه كانت معالم حياتنا . أغلب أندادي كانوا يتبرمون بالمسجد وحفظ القرآن ، ولكنني كنت أحب الذهاب إلى المسجد ، لابد أن السبب أنني كنت سريع الحفظ ، وكان الشيخ يطلب مني دائما أن أقف وأقرأ سورة الرحمن كلما جاءنا زائر . وكان الزوار يربتون على خدي ورأسي ، تماما كما كانوا يفعلون حين يرونني مع جدي.
نعم ، كنت أحب المسجد . وكنت أيضا أحب النهر .حالما نفرغ من قراءتنا وقت الضحى ، كنت أرمي لوحي الخشبي ، وأجري كالجن إلى أمي وألتهم فطوري بسرعة شديدة، وأجري إلى النهر وأغمس نفسي فيه .وحين أكلّ من السباحة كنت أجلس على الحافة ، وأتأمل الشاطئ الذي
ينحني في الشرق ويختبئ وراء غابة كثيفة من شجر الطلح . كنت أحب ذلك . كنت أسرح بخيالي وأتصور قبيلة من العمالقة يعيشون وراء تلك الغابة ... قوم طوال فحال ، لهم لحى بيضاء وأنوف حادة مثل أنف جدي . أنف جدي كان كبيرا حادا . قبل أن يجيب جدي عن أسئلتي الكثيرة، كان دائما يحك طرف أنفه بسبابته . ولحية جدي كانت غزيرة ناعمة بيضاء كالقطن . لم أر في حياتي بياضا أنصع ولا أجمل من بياض لحية جدي ، ولابد أن جدي كان فارع الطول ، إذ إنني لم أر أحدا في سائر البلد يكلم جدي إلا وهو يتطلع إليه من أسفل ، ولم أر جدي يدخل بيتا إلا وكان ينحني