Tettre
الحبيب العوادي
يهتم هذا المبحث أساسا بدراسة خصائص النّادرة عند الجاحظ باعتبارها جنسا نثريّا وسرديا مخصوصا يتميّز في المقام الأوّل بالإيجاز من الناحية الكمية والفكاهة والهزل من الناحية النوعية. بيد أنّ المفاجأة التي يحدثها العنوان من أول وهلة في ذهن القارئ، تتمثل أوّلا في الغرابة الكامنة في الربط المباشر بين قطبين لا يلتقيان أو هما قطبان متباعدان بحيث يستعصي الرّبط بينهما على سبيل التجاور أو التزامن في لحظة واحدة. أمّا المستوى الثاني فيتعلّق بالصّلة التي تشدّ هذه الجدلية إلى نصوص «البخلاء» ومن هنا ننتقل من السيّاق الدّلالي الأكبر، أي سياق المقدّس والمدنّس وهو سياق دينيّ عام ذو صبغة تقديسيّة عقديّة جادّة إلى السيّاق الدّلالي الأصغر الذي يرتكز على محورين : محور النوادر أوّلا ثمّ «البخلاء» ثانيا. أمّا المحور الأوّل الذي يتمثل في كلمة «النوادر» فيتضمّن معنيين متقابلين أوّلهما جادّ وقد خصّص له بعض الكتّاب فصولهم في مصنفاتهم، وتعرّضوا فيه إلى نوادر كلام العرب في الحكمة والأمثال، وثانيهما اصطلاحي جاد بمعنى النّدرة عن مجاله اللّغويّ الصرف إلى المجال الاصطلاحي الذي التبس بمعاني الهزل والضّحك. وكلمة «النوادر» في حدّ ذاتها تستدعي الضحك بمجرد سماعها لأنّها تردنا عبر الذّاكرة إلى أقاصيص ضاحكة ومضحكة.
أمّا المحور الثاني فيتعلّق بكتاب «البخلاء» حيث ترتبط لفظة «النوادر» مباشرة بقطبين هزليّين، الأول يتمثل في «البخلاء» باعتبارهم أشخاصا كسهل بن هارون والكندي، ثم باعتبارهم عنوانا لكتاب حيث يقع تجريدهم من شخصانيّتهم ليصبح الدال ذا دلالة تجريديّة (1) رمزيّة تنصهر فيها تدلاليّة الأسماء وتذوب في بوتقة اسم البخل نفسه. البخلاء إذن هم البخل مشخّصا أو البخل مطلقا.
فإذا صرفنا النظر الآن عن جدليّة «المقدّس والمدنس» فإنّ لفظة «نوادر» بإمكانها وحدها أن تـثير الضحك في السّامع دون الإحالة على قصص هزليّة بعينها أو على مشاهد طريفة محدّدة، معنى ذلك أنّها أصبحت تجسّد بنية صوريّة تجريديّة (2) لدى المتقبّل، نواتها الأساسية الغرابة والضّحك، وهذه البنية الصورية هي التي تحدّد «جنس» (3) النّادرة وهي التي توجه السامع أو القارئ إلى نمط معيّن من الخطاب.
إن البحث في نوادر البخلاء يجعلنا نتساءل عن «الفلسفة» التي جعلت الجاحظ يختار